عن تحرير العبادة من احتلال الدين

في الروضة الأولى، أخبروني أن الله يمد حبلا من السماء ويخنقني ليلا ان كذبت. لم أنم طوال سنة. وفي الصف الابتدائي الثالث، وقفت وسألت أستاذ الدين “ليش انت ما بتتحجّب كمان؟“أصيب بالدهشة والارتباك، فغرق في الضحك حتى أدمعت عيناه، وخرج يخبر الناظرةيومها، طردت من الصف وعوقبت بالحرمان من حصة الرياضة لمدة أسبوعينعندما أصبحت في الصف المتوسط الثاني، أجبرونا على حفظ آية الرحمن، حفظتها، لأنني كنت أقرأ القرآن والانجيل والتوراة لغرض الاطلاع الشخصي.لكني رفضت “تسميعها” وكتابتها في الامتحان، فأرسبتني المعلمة قائلة “انتي عم تتحدي الله، استغفر الله“، وانهارت في غيبوبة من التعبّد.

في صف “البريفيه“، أخبرتني المعلمة أن الله سيجدلني من شعري ويعلقني اذا لم أتحجب، وأنه سيحاسبني على جبل من جليد بكوني من “سيدات القوم” وذريتي تعود مباشرة للنبي محمد، وأن عيني سيأكلهما الدود لأنني لا أبكي في عاشوراء. لم يخطر برأسي شيء سوى الذهاب الى الحمام، فطلبت الاذن لذلك. استمرت سلسلة معاركي مع حصص الدين من اليرموك الى ذات الصواري، الى أن وقعت معركة حطّين بيني وبين معلمة الدين المفروزة من دار الافتاء الاسلامية في صف البكالوريا الأولى، في الدرس المتعلق ب“تعدد الزيجات“. قالت لي حرفيا “انتي بنت مش مهذبة“، قلت لها “لم أدّع التهذيب يوماً، خصوصاً عندما يتعلق الموضوع بالدين“. خرجت من الصف، ولم أعد يوما اليه.

اليوم، في هذا الزمن العابق بياسمين التغيير، لا أملك الا أن أحتلّ بيروت. وعندما أتخيّل في رأسي احتلال بيروت، أريد التوجه فورا ومباشرة وسريعا الى دار الافتاء الاسلامية، والمحكمة الجعفرية، ودار عقل الطائفة الدرزية، وبكركي. أتخيل ذلك المشهد الرائع من فيلم “أشباح غويا، حين اندلعت الثورة الاسبانية في العام1792 ضد حكم الكنيسة الاستبدادي والظلامي، ودخل الثوار الى مكتب البطريرك الأكبر، ليخلعوا التاج المذهب عن رأسه والصولجان الماسي من يده، ويلقوا به في السجن الذي كان يلقي به كل من لا يأكل لحم الخنزير بتهمة اعتناق اليهودية. أتخيل مشهدا مماثلا في لبنان.

أريد بيروت خالية من المؤسسات الدينية المفروضة فرضا على حياتي الشخصية، ولا أود هنا الدخول في النقاش الطويل حول ذكورية الدين في جوهره (باختلاف اوجهه، الاسلام والمسيحية واليهودية). سأكون“مهذبة“، وسأقول ما يفترض بي قوله: كل انسان/ة حرّ/ة في معتقادته/ا، لكن حرّية العبادة والتنسك تقف عند حريتي الشخصية في عدم رغبتي بالخضوع لأحكام هذا الدين وقواعده، والبيئة الاجتماعية الذكورية التي خلقها وتسبب بها، والسلطة المتسلطة للمؤسسات الدينية، ابنة هذه الأديان، على كافة جوانب حياتي ووجودي. سأقول ما يفترض علي قوله: فليبقوا عباداتهم في أديرة العبادة وفي المنازل. فليلموا أنفسهم عني، وعن السياسة والقانون والقضاء والاقتصاد.

أشعر بالانفصام، وبالخضوع. أشعر أنني مغتصَبة، كلما نظرت الى خانة “المذهب” في اخراج قيدي. أتذكر أنني لو شطبت هذه الكلمة كما فعل المئات غيري، لكان عليّ أن أعود غصبا عني خانعة الى المحكمة الجعفرية لو أردت الزواج أو التملك أو الميراث، لأحصل على اعتراف من هذه السلطة التي أرفضها، بأنني“شيعية“، لأتمكن من تسيير أموري اليومية.

أريد أن أحتلّ المؤسسات الدينية، لأخبرهم عن طفولتي مع “حصة الدين الاجبارية“. أريد أن أجمع رجال الدين في قاعة واحدة، وأشرح لقلوبهم الرحيمة المليئة بالمودة، عن ما تشعره المرأة بعد التعرض للاغتصاب، وان كان المغتصب زوجها. أريد أن أقول لكل أولئك النسوة اللواتي تظاهرن ضد قانون حماية النساء من العنف الأسري، أني غاضبة جدا منهن ومن خضوعهن لأوامر العمامات الذكورية. ماذا تعني سلطة الأب؟ لماذا لا يشعرن بالأمان الا اذا ركدن تحت أقدام رجالهن؟ لماذا يردن فرض “فانتازماتهن” على جميع النساء؟

أريد أن أجعل رجال الدين يقرأون التاريخ، ويعرفوا أننا كنا أكثر حرية في الجاهلية، وفي زمن الوثنية، وفي زمن الديانات غير التوحيدية التي فرضت عبادة الاله الذكر الواحد. أريد أن يعرفوا أن أديانهم جميعها، هي سبب أول في الدماء المسكوبة طوال قرون مضت وستأتي، وسبب أول في صعود المجموعات التكفيرية المسلحة. سأقول لهم أنهم سبب برد آلاف العائلات المؤمنة غير القادرة على شراء الحطب للتدفئة. أريد أن أقول لهم أنني أعرفهم على حقيقتهم، أعرف فسادهم، أشتم رائحته، أراه في ذلك الصولجان المذهب، وسيارات آخر موديل، والحرس الخاص، والمنازل الفخمة، والمكاتب الثرية، وضعف الخراف التي تستجدي عطفهم. سأقول لهم أنهم حلفاء للنظام السياسي الاقتصادي المتوحش، وأنهم يمارسون سراً كل أنواع“الفواحش” التي ينهون عنها في العلن، ويعاقبون مرتكبيها بالحرمان من الكنيسة والرجم بالحجارة والقتل.سأسألهم عن سبب حقدهم على المرأة، وعلى جسد المرأة، ووجودها، ومهبلها، وشعرها، وصوتها، وعينيها، وحريتها.

سأقول لهم أن الحيض ليس دنساً، وأن النشوة ليست عيباً خلقياً.سأخبرهم ان كانوا لا يعرفون، أنهم ليسوا لجنة من المخرجين العالميين ليقيموا الأفلام ويقرروا بالسماح بها أو منعها. سأخبرهم أنهم ليسوا خبراء قانونيين ليضعوا قوانين الانتخاب ورخص البناء، وأن لا سلطة الهية لهم ليتزوجوني ويطلقوني ويفصلوا في صلاحية ميراثي أو حضانتي لأطفالي.سأقولها لهم: لا مقدسات سوى حرية الفكر الانساني.

لا أريد لأحد أن يخاف من انتقاد الفساد والظلم والسرقة والذكورية، لمجرد أنها متجسدة في “رجل دين“. لا أريد لامرأة أن تغتصب باسم “ألحق الزوجي“، لا أريد أن أسمع خطبة الجمعة في المسجد المجاور، تغتصب سمعي رغما عن ارادتي. فليبقوا “ميكروفوناتهم” في داخل مساجدهم. لا أريد لامرأة أن تقتلع عينها، وتكسر رجلها، ويحرق شعرها، قبل أن يقرر سماحة الشيخ تطليقها بعد ثلاث سنوات (ان قرر) وانتزاع أولادها منها لصالح رجلها المجرم. لا أريد أن أسمع قصة موجعة جديدة عن بهدلة وظلم النساء في المحكمة الجعفرية والمحكمة الشرعية في قضايا الطلاق والارث. أريد أن يحاسبوا على كل ما اقترفت أيديهم، كما يحاسب اليوم مبارك (انما بظروف أشد قسوة!).

أريد لرفيقاتي النسويات في النضال، أن يقتنعوا كما أني مقتنعة، أن المؤسسات الدينية هي ركن رئيس من أركان الذكورية، ولا مجال للاصلاح فيها. أريدهن جميعا، أن يحتلوا المؤسسات الدينية معي. أريد أن يأتي يوم، نجلس فيه معا كما نجلس دائما، ونتفق على استخدام هذه الكلمة على تويتر:

#occupyreligiousinstitutions

لا أريد بيروت ان لم يكن لي فيها خيار بعدم الخضوع للمؤسسات الدينية الفاسدة والفاسقة. فليكن المستقبل لنا. فلنحتل المؤسسات الدينية

كافرة”، سيقولون “أنني لا أحترم المقدسات“، وأنني “بنت شارع“. الأكثر “انفتاحا” و“ثقافة“، سيقولون أنني“علمانية سلفية“، أو “أني أطالب بتغريب المجتمع” أو أنني “لا أفهم خصوصية المجتمع العربي“.

سأقول لهم جميعا، “لم أدّع التهذيب يوما، خصوصاً عندما يتعلق الموضوع بالمؤسسات الدينية“. فلنحتل المؤسسات الدينية

Publisher: 

Sawt al' Niswa

Section: 

Featured: 

Popular post

Our portfolio

We wouldn't have done this without you, Thank you Bassem Chit - May you rest in power.

Copy Left

Contact us

Contact Sawt al' Niswa via:

You can also find us on: